تعرف علي البحث العلمي برؤية إسلامية

                 تعرف علي البحث العلمي برؤية إسلامية

 تعريفات البحث العلمي  :


البحث العلمي في إيجاز شديد عبارة عن عملية فكرية منظمة يقوم بها شخص يسمى (الباحث) ، من أجل تقصي الحقائق في شأن مسألة أو مشكلة معينة تسمى (موضوع البحث) ، بإتباع طريقة علمية منظمة تسمى (منهج البحث) ، بغية الوصول إلى حلول ملائمة للعلاج أو إلى نتائج صالحة للتعميم على المشاكل المماثلة تسمى (نتائج البحث( تحت رعاية وتوجيه شخص خبير يسمى (المشرف) وتفاصيل هذا التعريف في ثنايا هذا الكتاب .
 فعند تناول مصطلح (البحث العلمي) يُلاحظ أنه يتكون من كلمتين هما:
(البحث)و(العلمي(
أما البحث لغوياً فهو مصدر الفعل الماضي (بَحَثَ) ومعناه:(تتبع، سأل، تحرى، تقصى، حاول، طلب) وبهذا يكون معنى البحث هو: طلب وتقصي حقيقة من الحقائق أو أمر من الأمور، وهو يتطلب التنقيب والتفكير والتأمل، وصولاً إلى شيء،يريد.الباحث.الوصول.إليه
أما العلمي: فهي كلمة منسوبة إلى العلم، والعلم : يعني المعرفة والدراية وإدراك الحقائق.؟ والعلم في طبيعته - طريقة تفكير وطريقة بحث أكثر مما هو طائفة من القوانين الثابتة).
أما العلم في منهجه فهو المعرفة المنسقة التي تنشأ من الملاحظة والتجريب، وأما في غايته فهو الذي يتم بهدف تحديد طبيعة وأصول الظواهر التي تخضع للملاحظة والدراسة، فهدفه صوغ القوانين لأنه ليس بحثاً يجد في طلب الحقيقة العظمى النهائية، وإنما هو فقط أسلوب في التحليل يسمح للعالم بالوصول إلى قضايا.مصاغة.صوغاً.دقيقاً
فالبحث العلمي يعتمد على الطريقة العلمية، والطريقة العلمية تعتمد على الأساليب المنظمة الموضوعة في الملاحظة وتسجيل المعلومات ووصف الأحداث وتكوين الفرضيات ، وتعددت تعريفات البحث العلمي كما سترى.
وعرف المنهج في الاصطلاح بعدة تعريفات منها أن المنهج هو:
الطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم بواسطة طائفة من القواعد العامة ، تهيمن على سير العقل ، وتحدد عملياته ، حتى يصل إلى نتيجة معلومة
" فن التنظيم الصحيح لسلسلة من الأفكار العديدة ، من أجل الكشف عن الحقيقة 
" طريق كسب المعرفة ، أوهو الطريقة التي يتبعها الباحث في دراسة المشكلة لاكتشاف الحقيقة ، أو هو الخطوات المنظمة التي يتبعها الباحث في معالجة الموضوعات التي يقوم بدراستها "
" كان ظهور الطريقة العلمية نتيجة للجهود المختلفة التي بذلها المهتمون خلال عصور طويلة ، لكن أول ملامح هذه الطريقة ظهرت على يد فرنسيس بيكون في نهاية القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر حين اقترح بناء النتائج على أساس مجموعة كبيرة من الوقائع والملاحظات التي يمكن جمعها ، ثم تطور هذا المنهج نتيجة لجهود وأفكار نيوتن وجاليلو فظهر المنهج العلمي ، أو الطريقة العلمية التي تجمع بين الأسلوب الاستقرائي والأسلوب الاستنتاجي القياسي ، أو جمع بين الفكر الذي يمثله الأسلوب القياسي وبين أسلوب الملاحظة الذي يمثله الأسلوب الاستقرائي.
فالأسلوب العلمي أو الطريقة العلمية هي طريقة تجمع بين الفكر والملاحظة وبين القياس والاستقراء "

تنوع تعريفات البحث العلمي:

تتعدد تعريفات البحث العلمي، ولا يتفق الباحثون على تعريف محدد بسبب اختلاف أساليب البحث ، منها:
·       البحث العلمي " عملية منظمة تهدف إلى التوصل إلى حلول لمشكلات محددة ، أو إجابة عن تساؤلات معينة باستخدام أساليب علمية محددة ، يمكن أن تؤدي إلى معرفة علمية جديدة "   
·       البحث العلمي "عملية منظمة لجمع وتحليل البيانات لغرض من الأغراض "  
·       البحث العلمي "عملية علمية ، تجمع لها الحقائق والدراسات ، وتستوفى فيها العناصر المادية والمعنوية حول موضوع معين دقيق في مجال التخصص ، لفحصها وفق مناهج علمية مقررة ، يكون للباحث منها موقف معين ، ليتوصل من كل ذلك إلى نتائج جديدة "
·       البحث العلمي "مجموعة الجهود المنظمة التي يقوم بها الإنسان ، مستخدماً الأسلوب العلمي ، وقواعد الطريقة العلمية ، في سعيه لزيادة سيطرته على بيئته ، واكتشاف ظواهرها ، وتحديد العلاقات بين هذه الظواهر "
·       البحث العلمي " البحث والتقصي المنظم لاكتشاف المعرفة ، والتنقيب عنها ، وفحصها وتحقيقها ثم عرضها بأسلوب ذكي لتسير في ركب الحضارة الإنسانية 
·       أن البحث العلمي " هو وسيلة للاستعلام والاستقصاء المنظم والدقيق, الذي يقوم به الباحث, بغرض اكتشاف معلومات أو علاقات جديدة, بالإضافة إلى تطوير أو تصحيح أو تحقيق المعلومات الموجودة فعلا, على أن يتبع في هذا الفحص والاستعلام الدقيق, خطوات المنهج العلمي."
·       ومنها أن البحث العلمي " البحث العلمي هو البحث النظامي والمضبوط الخبري التجريبي, في المقولات الافتراضية عن العلاقات المتصورة بين الحوادث الطبيعية."
·       ومنها أن البحث العلمي " هو فن هادف وعملية لوصف التفاعل المستمر بين النظريات والحقائق, من أجل الحصول على حقائق ذات معنى, وعلى نظريات ذات قوى تنبؤية."
·       ومنها أن البحث العلمي " هو محاولة لاكتشاف المعرفة والتنقيب عنها وتنميتها, وفحصها وتحقيقها بتقص دقيق, ونقد عميق, ثم عرضها عرضا مكتملا بذكاء وإدراك, يسير في ركب الحضارة العالمية, ويسهم فيه إسهاما إنسانيا حيا شاملا."
والذي نستطيع أن نخلص إليه من خلال كل هذه التعريفات أن البحث العلمي الأكاديمي: " هو الاستخدام المنظم لعدد من الأساليب والإجراءات للحصول على حل أكثر كفاية لمشكلة ما، عما يمكننا الحصول عليه بطرق أخرى، وهو يفترض الوصول إلى نتائج ومعلومات أو علاقات جديدة لزيادة المعرفة للناس أو التحقق منها".
و الحاجة الى الدراسات و البحوث و التعلم اليوم أشدّ منها في أي وقت مضى . فالعالم في سباق للوصول الى اكبر قدر من المعرفة الدقيقة المستمدة من العلوم التي تكفل الرفاهية للانسان ، وتضمن له التفوق على غيره . واذا كانت الدول المتقدمة تولي اهتماما كبيرا للبحث العلمي فذلك يرجع الى انها أدركت أن عظمة الأمم تكمن في قدرات أبنائها العلمية و الفكرية  . والبحث العلمي ميدان خصب ودعامة أساسية لتطورها وبالتالي تحقيق رفاهية شعوبها .

مكانة العلم والعقل في الإسلام:

أبرز ما جاء به الدين الإسلامي ودعا إليه هو تعلم العلم وتعليمه..
فقد رفع الإسلام من قدر العلم كثيرا، كان ذلك منه في عصور سادتها الجهالة وقد جاءت آيات وأحاديث كثيرة تحث على العلم وتبين فضله, وترفع من شأن ذويه, وحسبك تقديرا للعلم أن أول ما نزل من القرآن الكريم قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (سورة العلق1-5)  .
 ولقد ذكر اسم العلم معرفة ونكرة في عشرات الآيات من القرآن الكريم تناهز المائة وهو يطبق على علوم الدين والدنيا, لا تقف عند حد, ولا تنتهي عند نوع خاص من المعرفة، فمن العلم المطلق قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}(سورة الإسراء36) أي لاتتبع ما ليس لك به علم يثبت عندك بالرؤية البصرية, وبالروايات السمعية أو البراهين القطعية, فإن الله تعالى يسألك عما أعطاك من آلات هذا العلم ولقد جعل الله تبارك وتعالى العلم مقياس التفاضل بين الناس وبه ترتفع أقدارهم فقال سبحانه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}(سورة الزمر 9)
ذلك لأن الشخصية الإنسانية لا يقومها ولا يرقيها شيء غير العلم, لذلك حكم الله سبحانه أن أهله يمتازون عمن سواهم, ثم ترى القرآن الكريم في آية أخرى يصرح بأن العلماء لهم درجات عند ربهم وميزات يخصهم بها, قال تعالى):يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}(سورة المجادلة11) كما أنه سبحانه أاعتد بشهادة أهل العلم في وحدانية فقال سبحانه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ}(سورة آل عمران18) ومن ناحية أخرى نزل القرآن الكريم يسجل على الذين لا يعلمون حكما لا يرضاه ذو إدراك لنفسه: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}(سورة الروم59) كذلك يقول تعالى رادا على المستبدين: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}(سورة يوسف76) وذلك ليخففوا من كبريائهم ويعدوا أنفسهم لتلقي نقد الناقدين, ويأمر القرآن  المؤمن أن يكون دائما في استزادة من العلم {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً}(سورة طه 114) ويبين القرآن الكريم أن الإنسان مهما ضرب في ساحات العلم فإنه لا يزال في البداية: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}(سورة الإسراء 85) ولم يكن العبد الصالح الذي ذكر في سورة الكهف متبوعا وسيدنا موسى تابعا إلا أنه حظي بهبة العلم من الله الواسع العليم قال تعالى: {فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً}(سورة الكهف65)
وقد بين الله سبحانه سبب اختيار طالوت ملكا على بني إسرائيل رادا على من اعترض: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}(سورة البقرة247)
فأولاد يهوذا أغنياء و طالوت من الفقراء فأرادوا أن ينازعوه الملك فرد عليهم الله سبحانه إن الملك ينال وترقى سدته بالعلم رمز القوة المعنوية، والجسم رمز القوة المادية.
ولقد بين صلى الله عليه وسلم أن التنافس لا يكون إلا بالعلم ففيه ليتنافس المتنافسون، والتسابق لا يكون إلا على تحصيل المعرفة فعليه ليتسابق المتسابقون، لأن الخير كل الخير في العلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرا يفقه في الدين"([1])
وأن العلم المقرون بالعمل والعبادة يرفع الله صاحبه منزلة لا تعلوها منزلة هي منزلة الرسالة والنبوة من ناحية الفضل لا من ناحية الوحي والتشريع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم" ([2]).
كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن الأنبياء عليهم السلام تركتهم أسمى من المال وورثتهم أفضل الوارثين, العلم تركتهم, والعلماء ورثتهم ومن ورث العلم الصحيح الذي يرشد إلى الخير ويهدي من ناله سواء السبيل فقد فاز وكان العلماء ورثة الأنبياء, وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما, إنما ورثوا العلم, فمن أخذه أخذ بحظ وافر
 كما يعتبر الإسلام التعليم فرضا إجباريا، قال عليه السلام: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" ([3])
فطلب العلم فريضة لا تقتصر على مراحل الطفولة والمراهقة بل من المهد إلى اللحد والعلوم في نظر الإسلام نوعان:
أ‌-    علوم هي فرض عين:
كتعلم أمور العقيدة والعبادة على القدر الذي تصح فيه وتعلم حسن المعاملة, وحدود المنكرات, وتعلم العلوم المسلكية لكل فرد كتعلم شؤون التجارة وأحكامها للتاجر, والزراعة للزراع..
ب- علوم فرض كفاية:
وهي بقية العلوم الأخرى, كالطب والهندسة و الكيمياء والكهرباء والذرة والعلوم الصناعية والحربية وهذا يدل على ضرورة التخصص فإذا لم يتخصص أحد من المسلمين أثموا جميعا, مما يقود إلى توفير المختصين في كل المجالات الحيوية.
وإذا كان طلب العلم فريضة فتارك العلم تارك لفريضة فرضها الله ومن البديهي أن تارك الفريضة له عقوبته عند الله سبحانه,
كما أن التعليم في الإسلام مجاني فقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم المعلمين إلى القبائل يبذلون العلم مجانا وكذلك سار على هذا الهدي علماء الإسلام الأجلاء وأئمة المسلمين فهذا الإمام مالك رضي الله عنه يجلس في المسجد ليعلم الناس دون أن يتقاضى على ذلك أي أجر وهذا سعيد بن المسيب وأبو حنيفة و الأوزاعي وغيرهم... وغيرهم لم يعهد عن أحد منهم أنه أخذ أجرا, وإن أفتى العلماء بجواز أخذ الأجرة مقابل التفرغ للقيام بأعباء التعليم.
ولم يكتف الإسلام بكل ذلك بل بنى أصوله على العلم الصحيح والتفكير السليم فالعقيدة تقوم النظر لا على التقليد فالطريق الموصل إلى الإيمان بالله عز وجل هو التأمل في ملكوت السموات والأرض والاعتبار بما في كتاب الكون من آيات ناطقة بقدرته تعالى وعظمته: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرض لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(سورة البقرة 164) كما يأمر الإسلام بالحذر من الظنون والأوهام ويعلل ذلك بأنهما من الأسباب التي أدت إلى تضليل الناس وإفساد نفوسهم: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرض يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}(سورة الأنعام 116) .
والقرآن يأمر بالاعتماد على العلم اليقيني لا على الأهواء والأوهام وينعى على أقوام غامروا بعقولهم في متاهات من الظنون و الأهواء التي من شأنها أن تغطي الحقائق بدلا من أن تكشف عنها
والإسلام دين الحجة و البرهان فهو يأمر بألا يقبل الإنسان شيئا على أنه حق إلا اذا أقام عليه البرهان: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(سورة البقرة 111)
وهكذا أضفى الإسلام الصفة الدينية على البحث عن الحقيقة العلمية سواء أكانت من نوع الخبر أو من نوع الإنشاء وبديهي أن القيام بهذه المهمة يتوقف على وضع منهج للبحث ومعلوم أنه بقدر ما يكون المنهج صافيا سليما تكون الغاية صحيحة سليمة.
لذلك لا غرابة إذا رأينا أن الإسلام يرفع من شأن العقل ويأمر باستخدامه في قضايا الحياة الصغرى منها والكبرى وجعل الذين يحكمون عقولهم ويستنفدون طاقات تفكيرهم في كشف حقائق الحياة و اكتناه أسرارها وحدهم أهلا لأن يوجه إليهم الخطاب وأما أولئك الذين أوقفوا حركة العقل وأوصدوا في وجهه باب المعرفة فليس لهم من شرف الإنسانية حظ ولا من كرامة البشر نصيب وإذا استعرضنا ما جاء في القرآن الكريم وحده في معرض الثناء على العقل أو في سياق الحث على إعماله والنهي عن إهماله وجدنا أنه قد ذكر في القرآن الكريم وحده ما يقرب من سبعين مرة.
المنهج العلمي في القرآن:

تضمن القرآن الكريم منهجا لاكتساب الحقائق العلمية ، وهذا المنهج يحتاجه كل باحث عن الحقيقة العلمية ويمكن تلخيص هذا المنهج بما يلي:
أولا- أن أية قضية من القضايا لا يمكن إثباتها بمجرد دعواها بل لا بد أن تكون مستندة إلى دليل يدعمها وبمقدار صحة الدليل و قطعيته تكتسب القضية الصحة و الثبوت وهذا ما صرح به القرآن الكريم في مواضع مختلفة منها قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(سورة البقرة 111).
ولكل قضية من القضايا ولكل نوع من الدعاوى نوع من الأدلة العلمية يناسبها, فالدعاوى المتعلقة بطبائع الأشياء المادية يستدل عليها بالبراهين التجريبية المحسوسة والدعاوى المتعلقة بالمجردات لا يقبل معها إلا براهينها المسلمة والدعاوى المتعلقة بحقوق الأفراد والجماعات لا يقبل فيها إلا الشهادات المثبتة لها وهكذا لا تصبح القضية حقيقة علمية إلا بوجود الدليل المناسب لها.
ثانيا- أن الواجب على الباحث أن يفرق أثناء عملية الاستدلال بين الدليل اليقيني وبين الدليل الظني ومادون الظني, وبين النظرية في العلوم والحقيقة العلمية فالدليل اليقيني وحده الذي يصح الاعتماد عليه في الأصول من العقائد والأحكام وهذا ما جاء به القرآن الكريم في كثير من الآيات
ثالثا- لابد للباحث من طرح التقليد الأعمى وهو أكبر خطر على الوصول إلى الحقائق واكتشافها بل هو المعول الهدام لصرح العلم الصحيح ولقد كان بين الإسلام وبين التقاليد العمياء صراع عنيف دام فترة من الزمن حتى استطاع أن يقتلع جذوره من نفوس الجاهلين ويفتح عقولهم لتستضيء بنور الحق ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ}(سورة البقرة170)
رابعا- عدم التناقض بين الحقائق إذ لو جاز التناقض بين الحقائق لانهار صرح العلم, وهذا ما جاء موضحا في الآية الكريمة {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ}(سورة الملك 3) إذ التناقض أشد من التفاوت فإذا انتفى التفاوت كان التناقض منفيا من باب أولى.
خامسا- الاعتماد على الحواس فلقد عرفنا أن من القضايا ما يمكن إثباته بطريق الذهن وحده, وأن قسما آخر منها يفتقر في إثباته إلى الاعتماد على الحواس ومن هذا القسم العلوم المادية ولولا اعتمادها على الحواس ومن وراء الحواس العقل لما اتسعت هذه العلوم, ولما تمكن الإنسان من كشف شيء جديد والقرآن يطلب من أولي النهى أن يعملوا حواسهم وعقولهم في مظاهر الحياة وألا يهملوها وسيسألون يوم القيامة عن هذا الإهمال, قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}(سورة الأعراف 179)
ومما تقدم تعلم أنه لابد للباحث من أن يأخذ بهذه القواعد التي رسمها القرآن الكريم, وجعلها منهاجا للوصول إلى الحقائق بل لابد من التزامها حتى يكون في حرز عن الخطأ و مجافاة الصواب, وسواء أكانت هذه الحقائق دينية أم دنيوية ..


المنهج العلمي في السنة النبوية:

وأما السنة فثبوتها يتوقف على أمرين هما: صحة المتن, وصحة السند.
والمتن هو نص الحديث فإذا أردنا أن نحكم على متن الحديث أنه صحيح فلا بد أن يكون خاليا من الأمور التالية: ركاكة اللفظ والمعنى, مخالفته للمنطق السليم, مخالفته لما ثبت في التاريخ الصحيح, والحكم في ذلك لأهل الاختصاص.
أما صحة السند:
السند كما نعلم هو رفع الحديث إلى رجاله الذين يرويه بعضهم عن الآخر إلى رسول الله صلى لله عليه وسلم ولكي نحكم على حديث أنه صحيح لابد أن ننظر في كل فرد من أفراده فإذا كان كل راو فيه عدلا ضابطا لما حفظ ثم كان سند الحديث متصلا لا انقطاع فيه سالما من الشذوذ والعلة القادحة حكمنا على هذا السند بالصحة والقبول، وإن خلا من شيء من ذلك حكمنا عليه بالضعف.
ولقد وضع العلماء المسلمون علما مستقلا دقيقا يتعرف بوساطته إلى الحديث الصحيح من غير الصحيح ويسمى هذا العلم بمصطلح الحديث
وتفرع عن علم المصطلح فن آخر هو علم الجرح والتعديل وتفرع من علم الجرح والتعديل علم تراجم الرجال, حيث تلتقي هذه العلوم على وضع ميزان بغاية الدقة, وهكذا احتوت المكتبة الإسلامية التي في كل بلد منها أثر وفي كل مكتبة من مكتبات العالم منها خبر احتوت على مؤلفات كبرى تستعرض معجم الرجال الذين وردت أسماؤهم في أي سند من الأسانيد وتستطيع أن تقف على ترجمة من تشاء منهم جرحا أو تعديلا وأن تعرف الزمن الذي عاش فيه لتعلم من ذلك معاصريه.
هذا عرض سريع فيما يتعلق بتحقيق النقل والخبر ولكن على من يرغب الاستزادة أن يعكف على الفنون التي نوهت عنها ليجد الجهد الغريب وليجد الكثير من علماء الحديث من يقطع مئات الأميال في زمن لا توجد فيه الطائرة ولا السيارة متعرضا للمشاق و المهالك لا لشيء إلا ليلقى عالما يروي حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ليعلمه ويحفظه فحسب ولكن يريد أن يتلقاه منه أيضا ويستأذنه بروايته عنه لكي تزداد طرق هذا الحديث عنده أنه يسهل علينا جدا أن نقرأ إسنادا من هذه الأسانيد في كتاب من كتب الصحاح دون أن نتكلف أي جهد أو مشقة, ولكن المهم أن نتبين صورة ذلك الجهد العجيب الذي بذل وتلك التضحيات التي قدمت في سبيل هذين السطرين فقط من الإسناد الذي لا نلتفت له اليوم بل قد يضيق البعض منا من قراءته.
أما المرحلة الثانية: في المنهج فهي النص وهي تأتي بعد مرحلة إثبات النص فبعد أن يتأكد الباحث من ثبوت النص وصحته يعود إلى النص فيبذل أقصى ما عنده من جهد لفهمه واستنباط الحكم منه, وفهم النص يتوقف على أمور منها:
أ- معرفة اللغة العربية مفردتها وتراكيبها ومعرفة النحو والبيان فمن لا يكون ضليعا باللغة العربية في ميادينها المختلفة ليس أهلا لأن يستنبط الأحكام
أ‌-    معرفة أسباب النزول وأسباب الورود فإن معرفة سبب النزول وسبب الورود تلقي ضوءا على النص, وتكشف للباحث السبيل إلى المعنى الحقيقي.
ب‌-                       معرفة ما تقدم من النصوص وما تأخر فإن من المعلوم أن التشريع الإسلامي جاء متدرجا كما في تحريم الخمر مثلا فقد يأتي نص من النصوص فينسخ حكم نص سابق, ولذلك يتعين على فاهم النص معرفة السابق من اللاحق من النصوص.
وهذا الفن وتلك القواعد مما تتميز به هذه الأمة ولله الحمد والمنة ، وقل مثل ذلك في علم الفقه وأصوله .

نشأة البحث العلمي:

 البحث العلمي في تاريخه القديم مرتبط بمحاولة الإنسان الدائبة للمعرفة وفهم الكون الذي يعيش فيه، وقد ظلت الرغبة في المعرفة ملازمة للإنسان منذ المراحل الأولى لتطور الحضارة..
 من خلال الدراسات المتعددة تبين أن أوليات هذا المنهج العلمي وجدت في العصر الإسلامي المتقدم لدى فقهاء الصحابة، وجدت هناك جملة أفكار ودلالات تشير إلى بعض القواعد العلمية، فهناك فكرة الخاص والعام التي وضعها ابن عباس (رضي الله عنه)، ومارس بعض الصحابة فكرة (المفهوم) ومورست فكرة القياس كمحاولة قياس الأشياء بالنظائر، الأمثال بالأمثال، كذلك نجد أصول قواعد القياس وشرائط العلة، وإن الصحابة في زمن الرسول (صلى الله عليه وسلم) تكلموا في العلل إلى غير ذلك.
إن هذه العمليات الفكرية في استنباط الحكم الشرعي تشكل بمجموعها أصل منهج القياس الأصولي، وهو منه يعتمد الدليل الاستقرائي لتعليل الحكم الشرعي وعليه فاننا لو أخذنا بأصل النشأة التاريخية لذلك المنهج فان ذلك سابق على أقدم فرض تاريخي يذهب إلى إلقاء الفكر بين المنطق الأرسطي والفكر الإسلامي.
وعندما حمل المسلمون العرب شعلة الحضارة الفكرية للإنسان، ووضعوها في مكانها السليم، كان هذا إيذاناً ببدء العصر العلمي القائم على المنهج السليم في البحث، فقد تجاوز الفكر العربي الإسلامي الحدود التقليدية للتفكير اليوناني، وأضاف العلماء العرب المسلمون إلى الفكر الإنساني منهج البحث العلمي القائم على الملاحظة والتجريب، بجانب التّأمل العقلي، كما اهتموا بالتحديد الكمي واستعانوا بالأدوات العلمية في القياس.
 وفي العصور الوسطى بينما كانت أوروبا غارقة في ظلام الجهل كان الفكر العربي الإسلامي يفجر في نقلة تاريخية كبرى ينابيع المعرفة. ثم نقل الغربُ التراثَ الإسلامي، وأضاف إليه إضافات جديدة حتى اكتملت الصورة وظهرت معالم الأسلوب العلمي السليم، في إطار عام يشمل مناهج البحث المختلفة وطرائقه في مختلف العلوم، التطبيقية والإنسانية
فقد تمثل المسلمون المنهجية في بحوثهم ودراساتهم في مختلف جوانب المعرفة والمنهجية التي اختطوها لأنفسهم تلتقي كثيراً بمناهج البحث الموضوعي في عصرنا، وشهد بذلك كثير من المستشرقين الذين كتبوا مؤلفات يشيدون فيها بما يتمتع به العلماء المسلمون من براعة فائقة في منهج البحث والتأليف
وذكروا أن الدراسات المقارنة للمنهج العلمي الحديث والمنهج الذي سار عليه المسلمون في مجال علوم الطبيعة والكون أثبتت أن المنهج العلمي الحديث وأسلوب التفكير المنطقي قد توفر لدى علماء المسلمين في بحوثهم واكتشافاتهم في مجال الطب والكيمياء والصيدلة وعلوم الكون وبقية فروع العلم التطبيقي)
وهكذا يتبيَّن لنا أن السبق في البحث العلمي من حيث النشأة والبداية كان للمسلمين.



كتاب/مناهج البحث العلمى.
تأليف/د:جمال الدين محمد على تبيدى





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق