الإرشاد النفسي خطواته وكيفيته من وجهة نظر إسلامية

   الإرشاد النفسي خطواته وكيفيته من وجهة نظر إسلامية


 كيف تتم عملية إرشاد الفرد في ظل المنهج الإسلامي؟



وإجابة هذا السؤال تتضمن مراحل متلاحقة من حيث الزمن والإجراء ينبغي أن تشتمل عليها العملية الإرشادية، وأن تكون هذه المراحل واضحة لمن يقومون بالإرشاد النفسي كخطوات منطقية لكل عملية تتضمن علاقة إنسانية تقصد التأثير بالإتجاه الإيجابي، وهذه المراحل لا يتصور الانفصال بينها إلا في الإطار النظري بل هي مراحل متداخلة يخدم بعضها بعضاً، وفي شكل (1) ما يوضح هذه المراحل المتتابعة للعملية الإرشادية، ولأن الإرشاد يعد عملية، وليس أدباً أو وعظاً أو فلسفة، ولكي ننحو منحى عملياً ربطنا هذا النموذج بمرحلة معينة من مراحل النمو ليتم التمثيل والتوضيح واستعملنا مرحلة الشباب لأهميتها.

الواجبات قبل الإرشاد
الأهداف:

تجتمع مقاصد الإرشاد في استثمار طاقات الشباب الذاتية والتهيئة لبناء أو تعديل فكرهم وسلوكهم. وتوجيه اهتماماتهم، ورفع مستوى الإستجابة الداخلية للتهذيب النفسي والخلقي ويمكن أن تفصل بعض هذه الأهداف بما يأتي:

1-     الكشف عن الحاجات الحقيقية لدى الشباب والمشكلات التي يتعرضون لها.

2-     مساعدة الشباب على فهم أنفسهم في مراحل النمو المختلفة، والوصول بنمو الشباب إلى أحسن مستوياته.

3-     إمداد الشباب بمجموعة من الخدمات مثل: التعريف بالوسط التعليمي وبكيفيات بناء العلاقات الأسرية والإِجتماعية والطلابية، وبالإِرشاد النفسي والمساعدة على وضع الأهداف الدراسية والمهنية[2].

4-     اكتشاف واستخدام الوسائل الإِرشادية المختلفة التي تدعم العملية التعليمية وتؤدي إلى الشوق والشغف بها[3].

5-     المساعدة على حل المشكلات النفسية والتعليمية التي يواجهها الشاب في الوسط التربوي.

وهذه الأهداف عامة للإرشاد والتوجيه، ولابد عند القيام بالإِرشاد النفسي من تحديد الأهداف الخاصة للحالة المراد علاجها، وللعملية التوجيهية التي سيقوم بها المرشد على نطاق فردي أو جماعي أو داخل الوسط التعليمي، فإذا كانت الحالة مثلاً هي إخفاق طالب في دراسته أو تخلفه عن زملائه، فيجب وضع أهداف محددة للعملية الإرشادية التي سيقوم بها الموجه لعلاج هذه المشكلة بالنسبة لهذا الطالب.

والإرشاد بهذه الأهداف يمثل جزءاً من مهمة الداعية في الإسلام. والإسلام منهج شامل للحياة ييسر للناس السعادة والسواء والصحة النفسية، ويرشد المرشدين إلى الطريق الأمثل لتحقيق الذات، ونمو الشخصية، وترقي النفس في مدارج الكمال الإنساني.

"يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ"[4].

"هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلاَلٍ مُّبِينٍ"[5].

والقرآن يعالج ويرشد الإِنسان بطرق مختلفة، فتارة بطريق القدوة، وتارة بالإِستدلال العقلي وتارة بمخاطبة الوجدان بالموعظة والعبرة وتارة بغير ذلك.

فالطريقة الاقتدائية مثل قوله تعالى:

"فَبَعَثَ اللهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُريَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَي أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُوَن مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ"[6].

والطريقة الاستدلالية مثل قوله تعالى:

"ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ"[7].

والطريقة الوعظية مثل قوله تعالى:

"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ"[8].

وكأن من مقاصد القرآن استخدام الأساليب المتنوعة في الإِرشاد وتنبيه المرشدين لذلك مع أن الهدف واحد وهو معالجة النفس البشرية وتزكيتها في المواقف المختلفة.

معرفة المسترشد

ثم لابد من معرفة الشاب الذي هو موضوع الإرشاد، وهذه المعرفة تأخذ اتجاهين:

معرفة حال الشاب عامة في هذه المرحلة ((مرحلة الشباب)).

2 – معرفة حال الشاب الخاص الذي سيتم إرشاده، صفاته وتاريخه وظروفه، وتاريخ الحالة.. إلخ.

والأمر الأول يتم الاستعداد له من قبل المرشد منذ أن كوّن شقافته حول الإِرشاد فهو لابد أن يكون قد أطلع على الثقافة المتخصصة في هذا الميدان في فروع علم النفس والتربية والإِجتماع من جانب، والسيرة والتاريخ والثقافة الإِسلامية وما يلزم من معلومات شرعية من جانب آخر.

وأما الأمر الثاني فلابد من إلمام المرشد الداعية بالأساليب والطرق والكيفيات التي توصله إلى معلومات شرعية من جانب آخر.

وأما الأمر الثاني فلابد من إلمام المرشد الداعية بالأساليب والطرق والكيفيات التي توصله إلى معلومات كافية وصحيحة عن الحالة، وإلى تفسير هذه المعلومات وتحليلها من أجل إعطاء إرشاد مناسب للحالة.

ويتناول هذا البحث الجوانب التي ينبغي الإِشارة إليها حول الثقافة الإسلامية والتخصصية في مجال معرفة الشباب.

1 – تحديد فترة الشباب:
ليس هناك قول حاسم وواحد في تحديد سن البلوغ أو سن الشباب عند علماء الإسلام، فبعض الفقهاء يقرر أن الحد الأدنى للبلوغ يقع في بداية العاشرة والأعلى بالثامنة عشرة، كما هو قول أبي حنيفة (رحمه الله)، ويتفق الجمهور وفيهم أحمد والشافعي على أن سن خمسة عشر يعد هو حد البلوغ على ما في حديث ابن عمر عندما عرض على رسول الله r وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه ثم لما عرض يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة أجازة، وقد جعل هذا عمر بن عبدالعزيز حداً بين الصغار والكبار[9].
وقد أخذ مؤتمر وزراء الشباب العرب عام 1969م بوجهة النظر القائلة بأن فترة الشباب تقع بين سن الخامسة عشرة والخامسة والعشرين[16].

ومن هذه الآراء المتعددة يمكن الخلوص إلى أن هناك فترة يتفق عليها المختصون، تلك الفترة هي الواقعة ما بين (15 إلى 25)، وهذه الفترة مشتملة في سن الشباب أو الأشد عند علماء الإسلام، حيث تكون بداية بلوغ القوة البدنية والإِدراكية والمعرفية، وهؤلاء هم الذين خاطبهم الرسول r في حديث "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج"[17].

2 – الاطلاع على تاريخ الشبان:
أول ما ينبغي على مرشد الشباب – بهذا التحديد المذكور آنفاً – الإِطلاع على التاريخ الشبابي من خلال قصص القرآن وسيرة الرسول r والصحابة وشباب الإِسلام ليكوّن رصيداً للنموذج السوي المتزن
3 – إدراك طبيعة الشباب واستعداداتهم:
ويجب أن يلم المرشد بطبيعة هذه المرحلة (المراهقة والشباب)، ومن ذلك علمه بهشاشة البناء الفكري ورقة العاطفة والوجدان، والاستعداد للإِستقامة أو الإِنحراف، وأن سهولة إنحراف الشباب وصعوبة سيطرتهم على غرائزهم أمر متوقع، ومن ثم هناك حاجة ماسة للإِرشاد إلى المجاهدة والصبر[20] اللذين يؤديان إلى الشعور بالنجاح والإِنتظار على الضعف والشهوات والمغريات. وقد ورد في الأثر ((عجب ربكم من شاب ليست له صبوة)) كما دلت النصوص على عظم شأن المجاهدة التي يمارسها الشاب مع نفسه، ومن ذلك حديث "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.." ويذكر منهم "شاب نشأ في عبادة ربه"[21] لما يتميز به الشاب من غرائز عنيفة وحاجات ملحة تطلب الإِشباع السريع، وقد ضرب الله المثل بقصة يوسف الشاب وانتصاراته المذهلة على الرغبات النفسية والبيئية والنوازع البشرية الأرضية، قال تعالى: "قَالَتْ فَذَالِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءَامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ، قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِي].

4 – الاستعداد المعرفي للاسترشاد:
ثم لابد من العلم بالاستعداد المعرفي للاسترشاد عند الشباب ومعرفة موقف الشباب من الكبار والنظرة التي من خلالها يحكم الشاب على من هم أكبر منهم، ووجود أو إنعدام الجسور بين الطرفين، وهذه المعلومة ضرورية للمرشد الذي يريد أن يصل إلى عقول الشباب، ويخاطب وجدانهم، في هدايتهم وحل مشكلاتهم، وفي هذا المجال يدّعى الشباب وخصوصاً في المراهقة أن الراشدين لم يعودوا يفهمونهم ويدركون ظروفهم، ومشكلاتهم، ويؤيد ذلك بحوث عديدة منها بحث أجرى في تركيا وزع فيه استخبار على 3000 من المراهقين وكان من بين الأسئلة: (هل تظن أن الكبار يفهمونك على حقيقتك؟) فكانت النتيجة أن معظم المراهقين الذين تزيد أعمارهم على 14 سنة أجابوا بالنفي[25].

ولعل إنصراف المراهقين والشباب إلى الفئات من العمر نفسه، وقرب بعضهم من بعض يدل على وجود الشعور بالتفاهم بينهويرى عدد من الباحثين ضرورة حساب هذه الاتجاهات عند التعامل مع الشباب، ومحاولة بناء صداقة وأخوة يتم من خلالها ممارسة الإرشاد والنصيحة، وأن يحاول المرشد إزالة الحواجز والعقبات التي يرى المراهقون والشباب وجودها بينهم وبين الكبار، وذلك بفهمهم وتقدير حاجاتهم ومطالب نموهم مع المحافظة على صفة الاستاذية في الفكر والسلوك، والتي تهئ للاقتداء والقناعة بطلب المشورة من قبل الشباب.

5 – مطالب النمو في مرحلة الشباب:
معرفة مطالب النمو لدى الشباب وحاجاتهم النفسية كالحاجة إلى الأمن والرفقة والتقدير والنجاح والمكانة الاجتماعية وغير ذلك مما هو مفصل في كتب علم النفس والتربية، وقد أشار المتخصصون في هذا المجال إلى قوائم بالحاجات المهمة للشباب[28] منها ما ينطبق على الشباب عموماً ومنها ما لا ينطبق إلا على بيئات معينة، ولا ينطبق على البيئة الإِسلامية. وللشباب في المنهج الإسلامي حاجات أخرى تضاف إلى قوائم الحاجات، كالحاجة إلى الهداية، وإلى السكن النفسي المتمثل بالزواج المبكر، والحاجة إلى التوبة من ثقل الخطايا والذنوب.

قال تعالى:

"مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا"[29].

31].

التهيئة للإِرشاد ((القابلية))
والقابلية تعني استعداد المرء للاستشارة والاسترشاد وذلك بزوال العوائق التي يمكن أن تقف حائلاً بين الإِنسان وبين الإِستفادة، والإِقتناع بالنصيحة وبوجوب الأسباب والدواعي التي تدفعه وتحثه على سماعها وتطبيقها وهذه الهيئات للإِرشاد، والمتمثلة في وجود الدواعي وإرتفاع العوائق تدور في ثلاثة محاور:

1-     في صفات المرشد.

2-     في مصادر التلقي عند المسترشد.

3-     في الاستعداد النفسي للإِسترشاد.

في صفات المرشد:
فأما صفات المرشد فلابد أن يتوفر فيه ما يأتي:

1 – الصدق والإِخلاص: حيث تمثل صفة الإِخلاص حجر الأساس الذي يتكئ عليه الممارس للأعمال الإِرشادية والدعوية، وفقد هذه الصفة يمثل أول عائق في طريق الإرشاد.

"فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا"[32].

2 – القدوة فالشباب الذي يرى المرشد يؤجل ويهمل لا يمكن أن يتعلم منه النظام والجدية، والمراهق الذي يرد المرشد يدخن ويكذب ويسرق من عمله ولا يصلي لا يمكن أن يتعلم ترك التدخين والصدق والأمانة والمحافظة على الصلاة، والشاب الذي يرى المرشد مضطرب النفس سئ الخلق، لا يمكن أن يسترشد به في صحة النفس وحسن الخلق. ذلك أن فاقد الشئ لا يعطيه، وسلوك المرشد في هذه الحال يمثل عائقاً دون الاسترشاد بتوجيهاته مهما كانت المحاولة وإمكانات التخصص.

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونْ، كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ"[33].

"أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ"[34].

وقد أدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاعلية هذه الخصلة حين كان يجمع أهل بيته فيقول لهم: ((إني قد نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم، كما ينظر الطير إلى اللحم، فإن وقعتم وقعوا وإن هبتم هابوا، وإني والله لا أوتى برجل وقع فيما نهيت الناس عنه إلا أضعفت له العذاب، لمكانه مني، فمن شاء منكم فليتقدم ومن شاء فليتأخر[35] وهكذا فإن قوة الفعل تواكب قوة القول من حيث التأثير، لا سيما في مواطن الإِرشاد والعلاج والتربية، وقد كان عمر – بهذا السبب – فأمر الناس وينهاهم فلا يتأخر أحد عن السمع والطاعة والإِستجابة.

ومن المعلوم لدى المربين والمرشدين أن التعلم بالملاحظة (أي الاقتداء) أحد النماذج المهمة والمؤثرة والتي تفرض نفسها في الواقع، وقد أثبت جدواها في التغيير، وقد بينت دراسات عديدة، أن التلاميذ يتأثرون بسلوك معلميهم وتصرفاتهم، أكثر من تأثرهم بأقوالهم ونصائحهم فالمعلم المستجيب والمتعاون والايثاري والودود.. إلخ يزود طلابه بأنماط سلوكية هامة تسعى التربية إلى تكوينها جاهدة عن الأجيال[36].

إن التربية والإِرشاد بالقدوة الصالحة هي العماد في تقويم الإِعوجاج، وهي الباب إلى ترقية الشباب نحو الفضائل والمكرمات النبيلة والأساليب الصحيحة الحميدة.

3 – العلم: فالمرشد ينبغي أن يكون عالماً بأصول الإِرشاد والتوجيه سواء ما كان من المصادر الشرعية، أو من المراجع المتخصصة الحديثة. وكون المرشد يعرف بقلة العلم، وضحالة الإِطلاع، وإنعدام متابعة المعلومات يؤدي بالشباب إلى الإِعراض عنه، والزهادة بما عنده، فلا يقصدونه لتوجيههم وحل مشكلاتهم وحال هذا المرشد كحال من قال فيه الشاعر.

أما ذوو الجهل فارغب عن مجالسهم

((قد ضل من كانت العميان تهديه))

والعلم يمهد لقبول المرشد والأخذ برأيه والعناية بنصحه:

"قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ"[37].

4 – توفر القدرات والوسائل: وهذا جانب مكمل للعلم، فإن العلم وحده لا يكفي لإِحداث التغيير بل لابد من القدرات ووسائل التغيير، سواء كانت هذه القدرات قدرات شخصية ونفسية أو قدرات مادية وإدارية. ولذلك فإن عملية الإِرشاد قد تعاق أو تتعثر لا لفقد العلم أو الإِخلاص أو القدوة في المرشد، وإنما لفقد القدرة والإِمكانية.

في مصادر التلقي عند المسترشد:

وأما مصادر التلقي عند المسترشد وهو المحور الثاني للتهيئة فمن المعلوم أن هناك عوائق كثيرة تحول دون وصول الإِرشاد إلى مستحقه تتمثل في جهات التحكم، ومصادر التوجيه للشاب، فهو ينتمي إلى أسرة وإلى صحبة، وهو يتلقى من وسائل الإِعلام، ومؤسسات المجتمع المختلفة. كل هذه مصادر للتلقي إما أن تهئ للإِرشاد وإما أن تعوقه2].


في الاستعداد النفسي للاسترشاد:

المحور الثالث للتهيئة ويتمثل في الاستعداد النفسي للإسترشاد وهذا الجانب يتعلق بصاحب القضية أو المشكلة، وهو الطالب – هنا – والحديث في هذا الموضوع من ألصق الأمور بموضوع الإرشاد، فإن صاحب المشكلة هو موضوع الإرشاد ومقصوده، وكما أنه لابد من استعداد الطالب النفسي للتعلم، فإنه لابد من استعداد الطالب للإسترشاد، ولهذا جعل بعض[43] المخططين لتعليم القيم والأخلاق مرحلة قبلية لابد من توفرها سموها: (الاستقبال)، وهو أول مراحل هذا التعلم، إذ أن الإستعداد النفسي والإنتباه الإختياري لسماع الإرشاد والنظر فيه أول خطوة، ولا يتم ما بعدها إلا بها، وفي بعض الأحيان يواجه المربون الصعوبات والعقبات في سبيل تحقيق هذا المستوى الضروري للتربية.

قال تعالى: "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ"[44].

وقال تعالى: "فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ، وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي ءَاذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ"[45].

ويتركز إهتمام المرشد في هذه المرحلة التي هي نهاية عملية التهيئة وبداية عملية الإرشاد على جلب إنتباه الطالب إلى أهمية الإرشاد وإيجاد الرغبة لديه في الإستقبال والسماع.

الإرشاد
عملية الإرشاد ومفهومها:

إن عملية الإرشاد هي: ((عملية تعليمية تساعد الفرد على أن يفهم نفسه بالتعرف على الجوانب الكلية المشكلة لشخصيته، حتى يتمكن من إتخاذ قراراته بنفسه، وحل مشكلاته بموضوعية مجردة، مما يسهم في نموه الشخصي والإجتماعي والتربوي والمهني))[46] ويتم ذلك خلال علاقة تعاونية بينه وبين المرشد النفسي.

وهذا القالب لعملية الإرشاد والذي يتفق عليه المنظرون للإرشاد النفسي مع إختلاف الصياغة[47] يتفق مع السياق الإسلامي لعلاج الإنحرافات والمشكلات النفسية والسلوكية، التي قد يعيشها الفرد المسلم في المجتمع إلا أن المنطلقات والمحتويات والوسائل تختلف كثيراً أو قليلاً عما هو مطروح في الإرشاد الغربي – كما سنرى –.

والإرشاد النفسي بالتعريف السابق يشتمل على عناصر خمسة[48]:

1 – أنه عملية:
أي أنه ليس حديثاً عارضاً بل هو مفهوم يتصف بالاستمرارية وتحتاج هذه العملية إلى فترات من الزمن منتظمة حتى تتاح الفرصة للمرشد النفسي أن يلاحظ ما قد يطرأ من التغيرات في سلوك المسترشد.

2 – أنه عملية تعليمية:
فهو ليس نصيحة أو حلاً جاهزاً، وإنما هو مساعدة المسترشد على تعلم كيفية عوض مشكلته، وكيفية التعرف على جوانب شخصيته، وكيف يحل المشكلة على ضوء ذلك.

3 – أنه مساعدة:
وهذا من أهم عناصر الإرشاد النفسي بل إن بعض المتخصصين يصفون عملية الإرشاد بأنها: (المساعدة) أي أن عملية الإرشاد = المساعدة، واعتبروا هذا العنصر هو المفتاح الأساسي للعملية.

4 – أنه مبني على العلاقة الإنسانية:
فالصلة الأخوية والمشاركة الوجدانية بين المرشد النفسي والمسترشدين يتوقف عليهما نجاح العملية الإرشادية.

5 – المرشد النفسي يكون مهنياً متدرباً:
فالمرشد ينبغي أن يتصف بالخبرة والخلفية الشاملة في علم النفس والتربية، ويفضل من عمل في مهنة التدريس أو العلاج النفسي أو من تدرب على الإرشاد، وأثبت جدارته كل وفق مجال عمله.

وجهة الإرشاد في المنهج الإسلامي:

أما عندما نتكلم عن المنطلقات والمحتويات والوسائل فإننا نجد أن المنهج الإسلامي قد طرح رؤية مستقلة عن النفس البشرية، وحاجاتها وطريقة إشباع تلك الحاجات، وأسس هذا الطرح في النقاط الثلاث التالية، والتي يجب أن يعيها المرشد المسلم ويتعامل على أساس منها:

1-     الحاجات.

2-     ضوابط إشباع الحاجات وكيفياته.

3-     كيفية بناء الشخصية وترقيها (تشكل الشخصية).
الحاجات إما أن تنطلق من الروح، أو من الجسد، أو منهما جميعاً ولا فصل بينهما فهو تكوين ممتزج مترابط، ولتميز هذا الأساس جدت حاجات لم ينتبه لها علماء النفس، واختلفت حاجات لإختلاف الأساس الذي بنيت عليه ونشير هنا إلى بعضها:

1 – الحاجة إلى الهداية التي تتمثل في التطلع والرغبة في التعرف الواعي على الخالق البارئ، والجدير بالذكر أن الشباب – بغير الإرشاد السليم – يتعرض للشك الفلسفي في قضايا الألوهية والوحي والبعث والنشور.. ولكنه حتى عندئذ يعاني قلقاً روحياً لا ذهنياً فحسب لأن الجانب الروحي في كيانه متفتح وفي حالة نشاط. وحين لا يجد الزاد الصحيح فإنه يضطرب ويختل، ويكون القلق هو العرض الدال على ذلك..[60].

وقد نص القرآن على هذا في السورة العظيمة سورة الفاتحة:

2 – الحاجة إلى التوبة: حيث تتناسب مع طبيعة الإنسان المعرض للخطأ والإنحراف والقابل للندم والأسف والرجوع.

"وَتُوبُواْ إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَ المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"[62].

وقال رسول الله r: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون الله فيستغفرون فيغفر لهم"[63].

3 – الحاجة إلى ذكر من الغفلة والنسيان:

قال تعالى: "وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً"[64].

"وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً"[65].

"أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ"[66].

والأذكار الشرعية المطلقة والمقيدة لتلبية الحاجة إلى الذكر كثيرة ليس هذا مقام سردها وهي تدل على الحاجة الماسة للذكر وعلى كونه ضرورة الإنسان المطبوع على الغفلة والمستهدف من قبل الشيطان وجنده.

4 – الحاجة إلى الإنتماء: وهي من الحاجات المذكورة في علم النفس، لكن الإسلام أسسها بطريقة مختلفة. فالإنسان يحتاج إلى الجماعة أو الحزب وينفر من العزلة والوحدة. وقد أسس الإسلام هذه الحاجة على مبادئ مرنة وواسعة يمكن أن تسع الناس جميعاً. "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ"[67].

فلم يجعل الإنتماء على أساس الأرض أو اللون أو الجنس، وإنما جعله على أساس العقيدة والفكر، وعلى أساس الوحدة النفسية والقلبية المبنية على وحدة الشعور والولاء والتوجه.

قال تعالى: "إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ"[68].

"وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً"[69].

إشباع الحاجات:
أما طريقة إشباع الحاجات وكيفياته فقد بينه المنهج الإسلامي، وشرع لكل جانب من جوانب حياة الإنسان هدياً، وبدخول الإنسان في الإسلام يصبح مخاطباً بهذا الهدي الذي ينظم له كيفيات السلوك، والتعامل مع الجهات المختلفة للحياة، والذي يشرع له من الأحكام والآداب والنظم ما يتلاءم مع طبعه وجبلته وطاقته النفسية، إذ الشريعة الإسلامية شريعة الفطرة والتيسير، نزلت من عند الله الخالق البارئ فهي ((نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل، فهي قرة العيون، وحياة القلوب ولذة الأرواح، فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة))[70].
وحاجات الإنسان كلها سواء ما بيّنه المنهج الإسلامي أو ما بينته أبحاث علم النفس مما ينسجم مع المنهج الإسلامي تدخل في هذه المقاصد، فحفظ الدين يدخل فيه حاجة الإنسان إلى الدينونة والعبودية والهداية، وحاجته إلى الهوية المميّزة له. وحفظ النفس يدخل فيه رغبة الإنسان في الحياة وكراهية الموت والحاجة إلى الطعام والشراب والهواء وتجنب الألم والبرودة والحرارة. وفي حفظ العقل تدخل حاجة الإنسان إلى التفكير والاستطلاع والمعرفة، ورغبته في إكمال الناقص من الأشياء والميل للمنطقية والترتيب. وفي حفظ النسل تدخل الحاجة لإشباع الغريزة الجنسية، والحاجة للأمومة والأبوة والبنوة، والحاجة للحنان والمساندة والاحترام. وفي حفظ المال تدخل الحاجة للملكية الفردية، ويدخل فيه حب المال والجاه والسلطان وتحقيق الذات عن طريق العمل والدور أو الوظيفة.

ومن البدهى أن هذه المقاصد الخمسة لا ينفصل بعضها عن بعض انفصالاً تاماً، بل هي متداخلة يخدم بعضها بعضاً، ويكمل بعضها الآخر، وبعض الحاجات تعدّ مشتركة بين أكثر من مقصد من مقاصد الشريعة.

ويمكن أن نمثّل للحاجات وكيفية ضبطها – من خلال مفهوم مقاصد الشريعة والتدرج في تحقيقها – بالحاجة إلى الطعام، فالطعام به يحفظ الإنسان نفسه، ويقيم جسمه، وهذا الحفظ تارة يكون ضرورياً وهو ما يقيم أصل الحياة ويدفع الموت عن الإنسان، ولهذا أباح الله الأكل من الميتة لسدّ الرمق، وتارة يكون حاجيا وهو ما يمدّ الجسم بحاجاته المهمة وعناصره المتكاملة، وتارة يكون تحسينياً يشمل كماليات الطعام كبعض التوابل والمقبلات والمرطبات.. إلخ، وبالتدرج نفسه يقع الحكم الشرعي من الوجوب إلى الندب إلى الإباحة، فطلب الطعام والسعي له والتزويد به يكون تارة فرضاً لازماً وهو ما يقيم الحياة ويدفع الموت، وتارة يكون واجباً أو مستحباً وهو ما يتناوله الإنسان عادة من العناصر والمكونات الغذائية التي يحتاج إليها الجسم لكماله سوائه وتارة يكون مباحاً وهو في حق كماليات الطعام.

ومثال آخر هو الحاجة إلى اللباس والتي أشار إليها القرآن عند قوله تعالى عن آدم عليه السلام:

"فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى، فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ"[71].

تشكل الشخصية:
عملية الإرشاد تعني بمعرفة كيفية تشكل الشخصية، وكيفية تعديل هذا التشكيل، وهذه المعرفة تساعد على تحديد الخلل في شخصية المسترشد وعلى العمل لعلاجها وفق التصور النفسي الإسلامي لبناء الشخصية.

ويرتبط موضوع إشباع الحاجات إرتباطاً وثيقاً بتكوين الشخصية إذ أن حاجات الإنسان النابعة من كيانه وطريقة إشباعها يؤثران في بناء شخصيته، وقد ذكرنا إغفال علماء النفس لجوانب من حاجات الإنسان عندما تطرقنا لموضوع الحاجات، ومن أسباب هذا الإغفال إعراض علماء النفس عن الشق الآخر من كيان الإنسان وهو الجانب الروحي. ويرى محمد عثمان نجاتي أن هذا الاغفال ((أدى إلى قصور واضح في فهمهم للشخصية الإنسانية وفي معرفتهم للعوامل المحددة للشخصية السوية وغير السوية، كما أدى هذا إلى عدم اهتدائهم إلى تكوين مفهوم واضح دقيق للصحة النفسية))[83].

ونحن نرى أيضاً أن إغفال الجانب الروحي خصوصاً، وإغفال النظر إلى طبيعة حياة الإنسان وغاياته عموماً، أدى إلى عدم الاهتداء إلى الطريقة الشاملة والمناسبة لبناء الشخصية، وإلى ربط ذلك بمفاهيم بنائية داخلية وخارجية متناسبة مع هذه الطبيعة.

وفي رأي الباحث أن الشخصية تتشكل في المنهج الإسلامي من خلال ترقيها في درجات الإيمان – وفق المفهوم الشرعي للإيمان – ولربط ما سبق ذكره من إشباع الحاجات وكيفياته بتشكل الشخصية يمكن تصور ذلك في سلسلة من ثلاث حلقات كما في شكل (2).

إن الشخصية تنبني في البيئة الإسلامية وفق مفهومي الدين والإيمان[84] اللذين يقررهما القرآن والسنة والنبوية، وذلك بتدرجها في سلم الإيمان الذي يؤهلها لاكتساب صفات وسمات معينة حسب الدرجة التي تقع فيها. أما المبادئ التي ينبغي عليها هذا التصور فتتمثل في أربعة مبادئ لمفهوم الإيمان وآثاره وهي:

1-     أن العمل والسلوك مكون رئيسي للإيمان.

2-     أن الإيمان يزيد وينقص.

3-     أن المؤمنين يتفاوتون في الإيمان.

4-     أن للمؤمنين صفات وسمات.

وتمثل هذه المبادئ الأربعة تسلسلاً مرتباً أي أن الأول يؤدي إلى الثاني والثاني يؤدي إلى الثالث وهكذا، والشكل (3) يبين ذلك الترتيب.

المبدأ الأول:
إن الأعمال والممارسات أو السلوك – في مصطلح علم النفس داخل في مسمى الإيمان إلى جانب الاعتقاد والشعور.

قال رسول الله r: "الإيمان بضع وستون شعبة – وفي رواية بضع وسبعون شعبة – أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان"
المبدأ الثاني:
أن الإيمان يزيد وينقص وفق مقدار السلوك واتجاهه، وهذا يترتب على المفهوم السابق الذي يجعل السلوك والأعمال جزءاً من الإيمان، فالإيمان المشتمل على السلوك يزيد وينمو بالطاعة وينقص وينحسر بالمعصية.

قال تعالى:

"إِنِّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً"[9
المبدأ الثالث:
أن الناس يتفاوتون في الإسلام والإيمان على مراتب، وهذا مبني على درجات إيمانهم المشتمل على السلوك. ولذلك فإن الناس طبقات ودرجات في مستوى الإيمان يبدأ من وجود أصل الإيمان والذي يعد في أدنى المستويات وينتهي إلى الطبقات العليا السابقة إلى الخيرات.

قال تعالى:

"ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقُ بِالْخَيْرَاتِ"[96].

فالظالم لنفسه هو المسلم ظاهراً وباطناً[97]. ولابد أن يكون معه إيمان، ولكن لم يأت بالواجب، والمقتصد الذي أدى الواجب وترك المحرم، والسابق بالخيرات هو المحسن الذي عبد الله كأنه يراه وهو يقع في الدرجات العالية من الإيمان.

ثم إن هذا الترتيب ينبني عليه إختلاف الدرجات في الجزاء الأخروي:

قال تعالى:

"فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المُقَرَّبِينَ، فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ، وَأَمَّا إِن كَاَن مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ"[98].

المبدأ الرابع:
أن لشخصيات المؤمنين سمات وصفات تتفاوت حسب درجاتهم في الإسلام والإيمان وقد سبقت الإشارة إلى بعض أقسام المؤمنين التي وردت في القرآن تحت أنماط معينة كالشخصية الظالمة لنفسها والمقتصدة والسابقة بالخيرات.

قال تعالى:

"ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقُ بِالخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ".

أن المنهج النفسي الإسلامي ينطلق في نظرته للإرشاد والعلاج من نظرة شاملة ومتكاملة للإنسان، الذي هو محل الإرشاد فحاجات الإنسان النابعة من كيانه وطبيعته الحلقة الأولى في التعرف على الحالة أو المشكلة، وقد فصل المنهج الإسلامي هذه الحاجات سواء كانت متفقة مع طرح النفسيين أم مختلفة أو جديدة، وهيئة الإشباع وضوابطه هي الحلقة الثانية وهي ذات أثر فعال في بناء عادات الإنسان ومسالكه في سوائه وانحرافه – وقد وضع الإسلام منهجاً واضحاً ومحدداً لضوابط الإشباع وكيفياته، ولم يغفل المنهج الإسلامي تكوين الشخصية ومحدداتها، وكيفيات بنائها وأنماطها، لأنها الكيان المتكامل للفرد، والذي تظهر عليه هيئات السواء أو الإنحراف، وتكمن فيه أسباب الصحة والمرض، وتلك الحلقة المهيمنة والمكمّلة للعملية الإرشادية والعلاجية.

وبمقارنة مختصرة بين مدارس علم النفس المختلفة وبينها وبين المدرسة النفسية الإسلامية نجد الفروقات الجوهرية والشكلية.

فعند دراسة آراء المدارس النفسية المختلفة وأسسها الإرشادية نجد اختلافاً كبيراً فيما بينها حول النظرة إلى طبيعة الإنسان، ومحددات شخصيته بين مفهوم يجعل البيئة الخارجية تحدد الإنسان وتشكَّله، ومفهوم يجعل الحاجات والغرائز الداخلية هي التي تحدده وتشكِّله، وبين مفهوم يجعل الإنسان كائناً قادراً على الإختيار وحراً في التصرف والتأثر، ومفهوم يجعل الإنسان – في أساسه – آلة تدار عبر الحوافز والمعززات المختلفة من ثواب وعقاب.

وقد تتفق وجهات نظر الكثيرين منهم على إمكانية التغيير في الإنسان لكن بدرجات متفاوتة[104].

وهذا الإختلاف في أسس النظريات هو أهم أسباب الاختلاف والتناقض في أهداف الإرشاد وعملياته وطرقه بين المدارس المختلفة، فإذا نظرنا إلى أهداف الإرشاد عند هذه المدارس وجدنا إختلافاً واسعاً، فبعض المدارس يهدف إلى إعادة بناء شخصية المسترشد، وبعضها كالمدرسة السلوكية (Skinner) وغيره يهدف إلى التركيز على إزالة المعاناة والألم بمعرفة العرض ومعالجته، وبعضها وخاصة الذين يركزون على الفرد مثل روجرز (Rogers) أو على الإنسان مثل ماسلوا (Maslow) يهدف إلى تنمية معنى الحياة عند الفرد وتوفير الخدمات لنموه إلى أقصى حد أو تنمية أشخاص يحققون ذواتهم.

ورغم محاولات بعض علماء النفس[105]. التوفيق بين هذه الأهداف المختلفة والذهاب إلى أن هذه المدارس – وإن اختلفت – تمثل مراحل إرشادية أو علاجية، كل مدرسة منها تركز في أهدافها على مرحلة من هذه المراحل، أي أن هناك مدارس تركز على الأهداف المباشرة وأخرى على الأهداف الوسيطة وثالثة على الأهداف النهائية.

رغم هذه المحاولات إلا أن الفروق قائمة، إذ أن آراء المرشدين المنتمين لهذه المدارس مختلفة المنطلقات والتفسيرات للإنحراف أو المرض النفسي الذي يعاني منه المسترشد، فالعلة في المعاناة النفسية عند سكنر (Skinner) شكلية سلوكية، يتم السيطرة عليها عن طريق التحكم في المتغيرات البيئية بإستخدام جداول التدعيم وبرامج تشكيل السلوك[106]. والعلة عند فرويد تكمن في أعماق الإنسان وفي تاريخه الماضي، وقد يتم السيطرة عليها عبر التحليل النفسي والوصول إلى الأسباب اللاشعورية للمشكلة[107]. والعلة عند ماسلو (Maslow) تكمن في بنيان الشخصية ومدى تكاملها وتحقيقها لذاتها ومطالبها المختلفة، وتتم السيطرة عليها بإشباع حاجات الإنسان وفق التدريج المقترح في النظرية الإنسانية[108]. وهكذا فالإختلاف في النظرة إلى الإنسان ثم الإختلاف في تفسير الظاهرة المرضية يؤديان للإختلاف في أهداف العلاج وأشكاله.

والمنهج النفسي الإسلامي – كما أشرنا – يختلف في نظرته لطبيعة الإنسان، وفي نظرته لما ينتاب هذه الطبيعة من أعراض انحرافية ومرضية عن المناهج الأخرى، ويختلف أيضاً في تفسيراته ومعالجته لأزمات ومشكلات الفرد النفسية.

فالاهتمام يبدأ في النظر إلى الإنسان وطبيعة تكوينه ثم إلى الأسس والمقومات التي بنيت عليها شخصية الفرد، ثم إلى حالة التفاوت والافتراق التي وقعت بين الصورة النموذجية للشخصية، والصورة المرضية القائمة ثم إلى كيفية إعادة تشكيل الشخصية لتستقر على أحسن وضع ممكن وفق المعايير والإجراءات الشرعية.





كتاب/الأرشاد النفسي خطواته وكيفيته نموزج إسلامى
تأليف د/عبد العزيز بن محمد النغيمشي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق